خبر وتحليل – عمار العركي *_تعدّد مراكز القرار: عقبة الدولة السودانية أمام الداخل والخارج_*

مع مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على إعلان السفير “دفع الله الحاج أحمد” رئيسًا لمجلس الوزراء، لا تزال الحكومة المنتظرة غائبة. لم يصل رئيسها المُعلن إلى البلاد، ولم يتسلّم وزير الخارجيةالمكلّف”عمر محمد احمد صديق” مهامه، بينما تواصل الدولة إدارة شؤونها الحيوية عبر ترتيبات مؤقتة تفتقر إلى الكفاءة والوضوح
هذا الغياب لم يعد مجرّد تأخير عادي يمكن تبريره بالظروف، بل بات مؤشراً صريحاً على وجود خلل أعمق يتمثّل في تعدّد مراكز اتخاذ القرار داخل الدولة. لا جهة واحدة تُمسك بمفاصل السلطة التنفيذية، بل تتوزع السلطة – عن قصد أو عجز – بين مراكز متفرقة، تتضارب حساباتها وتتناقض أولوياتها، ما يُفسّر التردد والضبابية في كل الملفات.
*_غيـــاب الإرادة أم غيـــاب المـرجعيـة؟*
المشكلة ليست في تأخّر الإجراءات، بل في غياب الإرادة الموحدة التي تضع حدًا لهذا الفراغ. المشهد الحالي يوحي بأن بعض مراكز النفوذ المؤثرة تُفضّل استمرار هذا الوضع الرمادي، حيث لا توجد حكومة مكتملة الصلاحيات، ولا إعلان صريح لمسؤول سياسي يتحمّل المسؤولية ويتحدث باسم الدولة. هذا الفراغ يسمح بإدارة البلاد عبر تفاهمات غير معلنة،ويُعزّز منطق “التسيير” بدلًا من “الحكم”، وهو وضع لا يمكن فصله عن تعدّد الجهات التي باتت تمارس السلطة دون مساءلة أو تفويض رسمي من الشعب
*_وزارة الخارجيـة: نموذج للارتبـاك المؤسـسي_ .*
من أبرز المؤشرات على هذا الارتباك ما شهدته وزارة الخارجية في الأسابيع الأخيرة، منذ إعفاء الوزير السابق د. علي يوسف الشريف. فقد طرأ تحوّل ملحوظ في خطابات الوزارة وبياناتها، دون إطار مرجعي واضح، وفي ظل غياب الوزير المكلف المتواجد خارج البلاد.
هذا التحول لم يكن نتيجة مراجعة سياسية أو توجه رسمي معلن، بل يعكس ما يحدث حين تُترك مؤسسات الدولة عرضة للتوجيهات المتضاربة من مراكز القرار المتعددة. فأصبحت الوزارة تُجسّد حالة الغياب المؤسسي للتوجيه السياسي، في لحظة حساسة ومفصلية بالنسبة لمؤسسة تُعد واجهة السودان أمام العالم.
والأخطر من ذلك، هو التحوّل في مضمون الخطاب نفسه؛ حيث اختفت النبرة الوطنية السيادية الصارمة التي اتسمت بها المرحلة السابقة، وحلّ محلها هبوط ناعم وبرود دبلوماسي غير معتاد، خلال فترة وجيزة جدًا. هذا التحول يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة: ماذاهناك؟ ماذا يدور خلف كواليس القرارات المصيرية ؟ هل خطة الاستنزاف و الإنهاك ومسيرات الإمارات قد أتت أُكلها، فكان هذا الهبوط الناعم نتيجة لها؟ أم أن ما يحدث تكتيك مدروس، وانحناءة للعاصفة ؟ كيف يحدث ذلك بينما الجيش يتقدّم بثبات وثقة في الميدان؟ هذه التساؤلات وغيرها،لا تعبّر فقط عن قلق مشروع، بل تضع مؤسسات الدولة أمام تحدٍّ وجودي يتعلق بالهوية والسيادة ومركز القرار.
*_عواصم تنتظـر عنوانًا سودانيًا واضحًا_*
على المستوى الخارجي، لم يعد ممكنًا إخفاء آثار هذا الفراغ. الاتحاد الإفريقي يربط رفع تجميد عضوية السودان بتشكيل الحكومة، ورئيس المفوضية الجديد، “محمود علي يوسف” يترقّب خطوات من الحكومة السودانية، “تركيا وروسيا و الصين” تبحث عن شريك رسمي لتوقيع الاتفاقيات، “مصر ودول الخليج” – باستثناء الإمارات العدوانية – تترقب حكومة مستقرة لبدء مرحلة جديدة من التعاون والاستثمار، خصوصًا في ملف إعادة الإعمار، أما “إريتريا” الجارة الوفية، فما تزال عاصمتها “أسمرا” تمد يدها بيضاء، تنتظر مصافحة “الخرطوم” باتجاه تطبيع شامل وتحالف استراتيج، كل هؤلاء ببساطة، لا يجدون عنوانًا سودانيًا واضحًا للتعامل معه، ما يُضعف موقف الدولة، ويُتيح للخصوم ودُعاة الفوضى أن يتحركوا بحرية في مساحة الفراغ.
*_خلاصــــة القــــول و منتهــــاه_*
تأخير إعلان الحكومة لم يعد مجرّد تعطيل إداري، بل هو انعكاس مباشر لأزمة سياسية بنيوية، عنوانها الأكبر: غياب مركز قرار موحّد.
التحولات الأخيرة في خطاب السياسة الخارجية، وما رافقها من ارتباك في المواقف والنبرة، ليست سوى عرضٍ من أعراض هذه الأزمة العميقة،الهبوط الناعم في الخطاب السيادي لا يمكن فهمه بمعزل عن غياب قيادة سياسية واضحة، وعن واقع تتوزع فيه سلطة القرار بين أطراف متعددة تتباين مصالحها وحساباتها.
ومع كل هذا، تبرز تساؤلات حقيقية لا يمكن تجاوزها ، في ظل هذا التعدد في مراكز القرار وتداخل الصلاحيات، هل سينجح رئيس الوزراء ووزير الخارجية في أداء مهامهم؟ هل سيخضعون للبقاء في مناصبهم؟ أم يحاولون إثبات وجودهم ومواقفهم، ولو كلفهم ذلك الاستقالة أو الإقالة؟