أعمدة

صديق البادي يكتب: نعم للحلول الوطنية ولا للوصاية والغطرسة الأجنبية

في كتابه عبد الناصر والعالم قدم الأستاذ محمد حسنين هيكل وصفاً دقيقاً لما دار في جلسات مؤتمر باندونق بأندونيسيا الذي عقد في شهر أغسطس عام 1955م وشارك فيه عدد من زعماء ورؤساء دول عدم الانحياز والوفود المصاحبة لهم والتقي عدد منهم وتعارفوا لأول مرة في باندونق . وتعاقب الرؤساء علي منصة الخطابة وعندما اعتلي البانديت جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند المنصة أخذ ينظر عبر النافذة للأفق البعيد وران علي القاعة صمت مهيب وأخذيتحدث في هدوء ورزانة وذكر للحاضرين إن التحدي كبير أمام الدول التي نالت استقلالها حديثاً وعليها أن تسعي جاهدة لإرساء دعائم الوحدة الوطنية وتجنب الصراعات والفتن الداخلية وعليها أن تأخذ حذرها لأن الاستعمار الذي خرج بالباب سيعود متلصصاً ومتخفياً عبر النوافذ ولن يأتي بجيوش وغزو مسلح ولكنه سيتسلل عبر الاستعمار الاقتصادي والثقافي .. الخ مع زرع الفتن وزعزعة الأمن والإستقرار وفرض وصايته .

وفي يوم الأثنين الموافق الخامس من شهر ديسمبر الجاري عقدت بالقصر الجمهوري الجلسة التي تم فيها التوقيع علي ما وصف بأنه الاتفاق الاطاري وأثناء مشاهدة ومتابعة الجلسة طافت بذهني كلمات نهرو آنفة الذكر … وإن من حق السودانيين أن يتداولوا في كافة شؤونهم بحرية تامة وداخل البيت السوداني من حقهم ان يتفقوا أو يختلفوا وان يصلوا لطريق مسدود أو أن يصلوا لرؤية وصيغة توافقية . والملاحظ أن الحضور الأجنبي كان كثيفاً ممثلاً في الآلية الثلاثية والمجموعة الرباعية وكان المفترض أن يكونوا مسهلين وتبعاً لذلك يكون حضورهم للجلسة كضيوف شرف بوصفهم مسهلين ولكنهم كانوا في جلسة التوقيع هم أصحاب العرس الحقيقيين وقد حققوا مراميهم وكأن لسان حالهم يردد ( هذه ليلتي وحلم حياتي ) وقد كسروا الحواجز منذ مجيئهم للسودان وأصبحوا يتحركون كما يشاءون ويتصرفون كما يريدون ويتدخلون تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية والمسائل السيادية وترك لهم الحبل علي القارب . والخواجات ومن معهم أصروا أن يتم التوقيع علي مشروع الدستور المقترح من اللجنة التسييرية لنقابة المحامين وأنوف الجميع راغمة في التراب وربطوه بالتسوية التي أعلنوها وكل من يريد أن يكون جزءً منها عليه التوقيع والموافقة علي الوثيقة وكل من لا يوقع لا يحق له أن يكون جزءً من التسوية وقد سارت الأمور كما أرادوا وتم التوقيع علي الاتفاق الاطاري . وان بعض الذين يكثرون من التصريحات قد يعهد لأحدهم إلقاء كلمة باسم المجموعة ويكتبها له غيره وتكون مهمته هي القراءة فقط وان كانت الكلمة تحمل رؤية وأفكار كاتبها !! ويقولون إن الشيطان في التفاصيل ويقصدون إن الوصول لأية اتفاق إطاري والتوقيع عليه سهل ولكن الوصول للإتفاق النهائي والتوقيع عليه فيه معاناة لأن الشيطان في التفاصيل أما الآن فان الموقعين علي الاتفاق الاطاري من الجانب المدني يتوقع منهم الا يتوقفوا كثيراً عند التفاصيل وتبعاً لذلك يمكن أن يتم التوقيع النهائي من جانبهم بكل سهولة ويسر كما تشتهي الآلية الثلاثية والمجموعة الرباعية ومن يدورون حولهم أما بالنسبة للعسكريين فالمتوقع أن يقفوا كثيراً عن التفاصيل ….والتسوية تقف ضدها مجموعات سياسية عديدة متباينة ولكنها متفقة علي رفض التسوية وهي ذات وزن وقدرات هائلة علي التعبئة أذكر منها علي سبيل المثال لجان المقاومة ومجموعة الحل الجذري والحزب الشيوعي وجل البعثيين ومجموعة نداء السودان والأهل الأعزاء بشرق السودان الذين يحسون بالغبن ( ونلتمس منهم تأجيل عمليات القفل مراعاة لأحوال الشعب السوداني التي ساءت ولا تحتمل المزيد من المعاناة ) ولو افترضنا مجرد افتراض أن كل من ذكرتهم من الرافضين للتسوية جلسوا علي الرصيف متفرجين وامتنعوا عن المظاهرات والمواجهات وتركوا جماعة التسوية ليقيموا حكومتهم ( والفي البر عوام ) فان هذه الحكومة المفترضة ستجد نفسها منذ البداية مضطرة ومكرهة لمجابهة وضع اقتصادي ومعيشي وخدمي في غاية السوء وقطعاً ان الحكومة المرتقبة التي يشرف علي ميلادها ويرعاها الأجانب وتكون تحت وصايتهم ستكون حكومة باهتة ضعيفة لن تكون قادرة علي الصمود ومجابهة هذه التحديات التي تحتاج لحكومة عمالقة من أفضل الخبراء .

وان المجلس العسكري الانتقاليحكم مدة أربعة أشهر وأمضت حكومتي دكتور حمدوك الأولي والثانية ستة وعشرين شهراً أي أمضت ثلاثين شهراً قبل قرارات الفريق أول البرهان التي أصدرها قبل أكثر من ثلاثة عشر شهراً وثلاثة أسابيع وذكر الأجانب والخوجات أنهم أوقفوا ما كانوا ينوون تقديمه بسبب تلك القرارات وهذا ادعاء كاذب خادع درجوا عليه وبعد التوقيع علي قرارات مؤتمر المانحين في أوسلو بعد توقيع إتفاقية نيفاشا في عام 2005م وعدوا بتقديم مساعدات وأموال طائلة ولم يقدموا شيئاً وكانوا كاذبين واذا وقفنا قليلاً عند وعودهم الكاذبة في الفترة الانتقالية فان دكتور عبد الله حمدوك أمضي ستة وعشرين شهراً في السلطة شكل خلالها حكومتين وعاني كثيراً وأبدي ضيقه من الطوق الخانق والوصاية التي كانت تفرضها عليه قحت وكان سيادته يعول كثيراً علي الدعم الأجنبي بعد التغيير الذي حدث ولكنهم بكل أسف خزلوه ولم يقدموا له شيئاً يذكر وعلي سبيل المثال فان الولايات المتحدة الأمريكية بعد إعلان رفع عقوباتها الاقتصادية عن السودان وفك الحسابات المصرفية المجمدة عندهم ولم تكن كبيرة كان المتوقع أن تقدم دعماً محسوساً ملموساً ولكنها بالعكس بدلاً من أن تقدم للسودان أخذت منه وفرضت عليه تقديم تعويضات لأسر الضحايا رغم أن المحكمة برأت السودان وما أخذ منه فيه ظلم واضح وإبتزاز ورغم ظروفه المالية السيئة إلا أن الحكومة اضطرت مكرهة لتوفير المال والغرامات بالعملة المحلية وتحويله لدولارات اشترتها من السوق الأسود وأدي ذلك لإرتفاع سعره . وبدلاً من أن تساعد أمريكا السودان ابتزته وأخذت منه وينطبق علي هذه الحالة المثل ( جينا لي مكة تغنينا قلعت طواقينا ) وفي العهد السابق كانت أمريكا وراء القرارات والعقوبات التي أصدرها مجلس الأمن ضد السودان ودعمت أمريكا المعارضة السودانية وخصصت سنوياً مبلغاً كبيراً للتجمع الوطني المعارض وأعلنت الأرقام علي الملأ وكانت تدعم التمرد وبعد انطواء صفحة ذلك العهد كان المتوقع أن تحول كل تلك الأموال لدعم حكومة حمدوك ولكنها لم تفعل ولم تقدم لها مساعدات تذكر ومع ذلك سعت لأن تفرض وصايتها عليها وتتدخل حتي في اختيار عدد من الوزراء مع املاءات في السياسات الاقتصادية لتنفذ وفق توجيهاتها والتقارير التي تأتيها عبر مبعوثيها عن الأوضاع في السودان يقدمها لهم سودانيون قريبون منهم وفق أهوائهم الذاتية وانتماءاتهم السياسية ومشاربهم الفكرية وهي معلومات مضللة تبني عليها توجهات وسياسات خاطئة .

وفي بدايات حكومة حمدوك الأولي أعلن عن مؤتمر للمانحين للسودان يعقد في برلين بألمانيا وتم عقده وكانت حصيلته تقديم قليل من الفتات والمسألة في البداية والنهاية كانت زوبعة في فنجان أما مؤتمر باريس فقد سبقته وصحبته ضجة إعلامية صاخبة ودارت توقعات كثيرة عن إعفاء الديون وتقديم دعم كبير وتمخض الجبل وولد فأراً وقدم شيئ ضئيل كان أشبه بتقديم فتات في قرعة سائل ملحاح وكل ما فعلته فرنسا هو توقيع اتفاقيات لاستثمارات يبدأ النظر فيها في المدي البعيد ولا زالت حبراً علي ورق وقد أسدل عليها ستار النسيان . أما الاتحاد الأوربي فان الشيئ الذي قدمه هو صرف مرتبات وامتيازات السيد رئيس الوزراء والعاملين بمكتبه بالعملات الحرة وكان الشيئ الصحيح هو ان يصرفوا استحقاقاتهم من خزينة الدولة وليس من أية جهة أجنبية . وقدم الاتحاد الأوربي وآخرون مشروعاً إسمه ثمرات واعتبروا أن الشعب كله وبلا استثناء فقير معدم ولذلك قرروا تقديم منحة شهرية لكل فرد مقدارها خمسة دولارات أي حوالي ثلاثة آلاف جنيه في الشهر ومع أنها مسألة مهينة ورغم تفاهة المبلغ إلا أن المشروع لم ينفذ إلا بنسبة تقل علي خمسة في المائة لأمد قصير وهو مشروع فاشل بكل المقاييس . أما السفير البريطاني السابق في السودان فقد كان يسرح ويمرح ويكتب مقالات في الصحف يبدي فيها وجهة نظره في مسائل داخلية وقضايا محلية وكان يجلس علي كرسي الوصاية والأستاذية بل ردد الكثيرون أنه هو الذي كتب الخطاب الذي أرسله السيد رئيس الوزراء لمجلس الأمن وبموجبه تمت الموافقة وأحضرت البعثة الأممية . أما الدول العربية الشقيقة النفطية الغنية فان علاقتها كانت ممتدة مع السودان ونتوقف هنا عند الفترة الانتقالية التي أعقبت التغيير وفي البداية أعلنت دعمها وبدأت تساعد بنسب متفاوتة وتدريجياً قل الدعم أو توقف وبعد قليل من العتاب أكد بعضها أنه دعم مالياً وعينياً وذكر الأرقام ولكن يؤخذ علي دولة عربية خليجية شقيقة أنها ظلت تتحامل علي السودان كثيراً رغم استفادتها من ذهبه المصدر ولا أقول المهرب إليها ولها أجندتها المتعلقة ببعض مصالحها ولا أقول مطامعها ويمكن أن يتم كل شيئ عبر المفاوضات الجهيرة الصريحة لا بالضغط والاكراه ويمكن إعادة المياه بين الأشقاء لمجراها الطبيعي إذا طابت النفوس وصفت النوايا …. والتخطيط الاستعماري الأجنبي يهدف في نهاية المطاف تقسيم السودان لخمس دول ولكن تأتي علي رأس أولوياتهم الآنية العاجلة غير الآجلة اضعاف الجيش السوداني وتمزيق وحدته والقضاء علي ترسانته الحربية ويزعجهم الآن أنه من أقوي الجيوش ومشهود له بذلك اقليمياً ودولياً وفي سبيل تحقيق هدفهم الخبيث هذا فانهم يسعون لخلق فتنة بين القوات المسلحة الباسلة وبين الدعم السريع وهو من اذرعها وله أدواره المكلف بادائها في الوقت الراهن والفريق أول عبد الفتاح البرهان وهو عسكري مهني متمرس لأكثر من أربعين عاماً وعمل لفترات طويلة في الميدان والعمليات يدرك أكثر من غيره أهمية التكامل والتعاون بين القوات المسلحة الباسلة وذراعها المهم الدعم السريع في هذه الظروف . وان الذين كانوا يسيئون للدعم السريع وقائده ومن معه في القيادة بأقذع الألفاظ والاساءات وكل شيئ موثق اخذوا الآن يتقربون ويتزلفون لقائد الدعم السريع وللدعم السريع ويعلنون دعمهم لها بل يطالبون بأن تكون هي الأساس عند دمج وتوحيد القوات المسلحة الذي ينادون به وهم لا يفعلون ذلك حباً في الدعم السريع وقائده ولكنهم يفعلون ذلك نكاية في القوات المسلحة الباسلة ولدق اسفين بينهما يؤدي لاشتباكات ( والنار من مستصغر الشرر ) وفي مرحلة لاحقة بعد إلمامهم بكل أسرار وخفايا ومكونات وامكانيات الدعم السريع المالية واللوجستية فالمتوقع أن يخلقوا تكتلات وفتن داخلية وتصفية الحسابات القديمة معه ( واذا رأيت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم ) ولا أدري كيف فات كل ذلك علي الفريق أول حميدتي وهو شاب تربي في البادية والبدويون يتسمون بفراسة وزكاء فطري حاد ( ومن مصلحة البلاد والعباد أن تكون العلاقة طيبة بين القوات المسلحة الباسلة والدعم السريع في هذه المرحلة) .

واذا افترضنا ان التسوية مضت كما يتمني الخواجات ومن والاهم وكونت حكومة فانها قطعاً ستجد معارضة شرسة من قوى اليسار وقوى اليمين وقواعد الوسط العريض وتكون البلاد في حالة اضطرابات ومظاهرات متصلة ومواكب ضد الحكومة وللخروج من هذا النفق المظلم فان علي القوات المسلحة الباسلة أن تلتقط قفاز التحدي بكل قوة وحسم وعزم وليس مطلوباً منها أن تقوم بإنقلاب عسكري وهذا مرفوض شعبياً تماماً في الوقت الراهن وسيجابه بمظاهرات وحرائق تتبعها موجهات شرسة وقطعاً أن القوات المسلحة تزخر بالخبراء والعلماء والمتخصصين في شتي المجالات هندسة .. طب .. قانون .. اعلام .. اقتصاد .. إدارة … الخ ولن تتهور وتقدم علي هذه الخطوة ولكن يمكن للقوات المسلحة كمؤسسة قومية تقف علي مسافة واحدة من كل الأحزاب والقوى السياسية ان تقوم بدور وطني مجيد وتشكل قياداتها هيئة لتخرج البلاد من وهدتها السحيقة التي تردت فيها وتدعو عدداً من الاكاديميين والشخصيات الوطنية المستقلة من المتقاعدين الذين لا طموحات لهم أو أجندة خاصة وتستعين بالاستخبارات ومراكز المعلومات وتبدأ الهيئة التي تجمعهم كلهم في عملية اختيار رئيس الوزراء والوزراء من الخبراء والتكنقراط من أصحاب الوزن الثقيل مع القيام باختيار مجلس تشريعي انتقالي غير مترهل من أهل الخبرات وإعادة تشكيل المحكمة الدستورية … الخ وقد ظلت البلاد في حالة فراغ تنفيذي وتشريعي لأن البرهان لم يصدر قرارات بالتعينات بعد إذاعته لبيانه وظلت البلاد في حالة فراغ ولا يمكن ان يقوم بهذه المهمة الآن وحده ولكنه بالطبع يكون جزء من هذه الهيئة الوطنية والتي نأمل أن تنجز عملها في وقت قياسي وقد كثر اللت والعجن … وعلي القوات النظامية وعلي رأسها القوات المسلحة أن تكون حامية للأرض والعرض وعليها حفظ الأمن القومي والسيادة الوطنية ونريد حلولاً وطنية ناجعة وناجزة ( أمسك لي وأقطع ليك ) وما حك جلدك مثل ظفرك ودعونا من لت وعجن وألاعيب الأجانب والخواجات الذين يعملون بالمثل جلداً ما جلدك جر فيه الشوك .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى