أعمدة

*اللاجئون.. انكشاف زيف الأقنعة*

أمواج ناعمة

د. ياسر محجوب الحسين

مع تصاعد الأزمات الدولية وتنامي حدة الاستقطاب العالمي لم يعد ممكنا أو صعبا، إخفاء حالة النفاق الدولي والسياسي سواء على مستوى حكومات الدول أو على مستوى المؤسسات والمنظمات الدولية، كما لم تعد عبارات الإعراب عن القلق فعالة في تغطية وجه النفاق البشع. كان لافتا حين أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أنه «قلق جدًا» بشأن ظروف اعتقال رئيس النيجر المعزول محمد بازوم، مستنكرا أنه محتجز في ظروف معيشية بائسة. في ذات الوقت تناسى غوتيرش أن نحو 27 مليونا من سكان النيجر محتجزون في ذات الظروف نظرا للعقوبات التي فرضتها دول الإيكواس على النيجر بسبب الانقلاب على الرئيس بازوم، فقد قطعت نيجيريا الكهرباء عن النيجر التي تستورد 70 % من حاجتها من الكهرباء من نيجيريا. ولعل الظروف المعيشية البائسة التي يعيشها بازوم حسب وصف غوتيرش سببها قطع الكهرباء. إن تلك العقوبات التي فرضتها الإيكواس بتشجيع أممي وغربي تضر في الأصل بعامة الشعب وليس بقادة الانقلاب.

وغير بعيد عن النيجر هناك على الحدود التونسية الليبية تدور مأساة إنسانية تتفطر لها القلوب السليمة، لكن الأمم المتحدة وأمينها العام رأت في ظروف احتجاز بازوم أمرا أكثر أهمية وإلحاحا. هناك على الحدود المقفرة مات 21 طالب لجوء أفريقي بينهم أطفال ونساء جوعا في صحراء متوحشة وإن كانت أقل توحشا من قلوب بعض البشر. وذلك بعدما ألقي بهم في الصحراء وكأنهم نفايات أو مجموعة من الصراصير تحت مرأى وسمع العالم وبالضرورة بعلم غوتيرش والاتحاد الأفريقي ومجموعة الإيكواس المشغولين بالأجندة الفرنسية وإعادة بازوم بأي ثمن ولو كان إبادة شعب النيجر بكامله، فوجوده مهم لتثبيت المصالح الاستعمارية كما أن قيام بعض الدول بدور البواب لصالح أوروبا المنزعجة من موجات اللجوء كذلك يخدم مصالح المستعمر السابق والجديد في آن واحد. وتقول منظمة «المرصد التونسي لحقوق الإنسان» وكذلك منظمة هيومن رايتس ووتش إن طالبي اللجوء الأفارقة حُصروا في منطقة عسكرية عازلة بين حدود تونس وليبيا، وارتُكِبت تجاههم انتهاكات خطيرة. وطالبت المنظمتان بضمان احترام حقوق الإنسان والقضاء على التمييز العرقي. وطالبتا الاتحاد الأوروبي بتعليق تمويل مراقبة الهجرة الموجه إلى قوات الأمن، ووضع شروط حقوقية للحصول على دعم إضافي. في إشارة إلى مذكرة تفاهم الشهر الماضي بين «الاتحاد الأوروبي» وتونس بشأن «شراكة إستراتيجية» تضمنت حزمة تمويل بقيمة مليار يورو.

ليس صدفة تزامن العنف القائم على الكراهية والعنصرية تجاه اللاجئين على بوابات وتخوم القارة الأفريقية مع ما يجري تجاههم في بريطانيا وفرنسا بل كان ذلك تشجيعا وضوءًا أخضر لدول أخرى صغيرة. لقد تعرضت سياسة الحكومة البريطانية تجاه اللاجئين للسخط والاشمئزاز ورمت إلى ترحيل المهاجرين وطالبي اللجوء قسرا إلى رواندا حتى يتم البتّ النهائي في أوضاعهم. بل تطورت للتعامل الخشن مع مرتادي القوارب في بحر المانش الذي يفصل بين بريطانيا وفرنسا. ولأول مرة منذ العام 2018 اجتمعت بريطانيا مع فرنسا بعد جفوة وسنوات من التوتر لأجل إقرار سياسة جديدة و«شراكة وثيقة» تهدف إلى مكافحة عنيفة للاجئين.

اليوم تصوّر الدول اللاجئين والمهاجرين كما يصوّر الغول الخرافي في القصص الشعبية والحكايات الفلكلورية؛ فهو مخلوق بشع مخيف يستحق ضرب غرائب الإبل. وصمتت الأمم المتحدة صمتا تاما ولم تتكرم على هؤلاء اللاجئين حتى بعبارة «الإعراب عن القلق». لقد قفزت مشكلة اللجوء إلى قمة أجندة المشاكل الدولية المزمنة خلال السنوات العشر الأخيرة، وضاقت أوروبا بها ذرعا وطفقت تلتمس الحلول بكل السبل الميكافيلية وفي أي مكان وبأي وسيلة. ولم يعد المشكل كما كان في السابق مجرد ترف تنشغل به الحكومات والمنظمات الطوعية لإظهار «إنسانية» العالم المتحضر، وللتعويض النفسي جراء الشعور بالتقصير تجاه عالم استعمروه سنين عجافا، وسموه ثالثاً ونكبوه بالحروب والأزمات السياسية وسرقة ثرواته.

وفي الأزمة السودانية تصر الأمم المتحدة على فرض رئيس بعثتها في الخرطوم فولكر بيرتس رغم رفضها له لأسباب ترى أنها موضوعية، وحتى إن لم تكن موضوعية فلا سبيل لفرض هذه الشخصية، إذ إن مهمة البعثة وقد جاءت عبر إجراءات ملتبسة، المساعدة في عبور آمن للفترة الانتقالية وتنتهي بانتخابات شفافة ونزيهة، وهذا يتطلب حدا أدنى من القبول لرئيس البعثة من جانب الأطراف الفاعلة فضلا عن حياده المشكوك فيه. ففي آخر جلسة لمجلس الأمن الأسبوع الماضي اضطر فولكر أن يتخلى عن تقديم إحاطة بعد أن أصرت الخرطوم على رفضه. وقالت المبعوثة الأمريكية في المجلس ممتعضة إنهم تلقوا ما مفاده أن فولكر سيقدم إحاطة إلى المجلس لكن اسمه سحب صباح الجلسة من جدول الأعمال، وهذا حدث للمرة الأولى منذ تعيينه. ولو أن الأمم المتحدة تحترم رغبات كل الأعضاء على حد سواء دون تحيز لتجنبت هذا الموقف المحرج. وعلقت الخرطوم على الحدث بأن ذلك كان ممارسة لحقها المشروع في قبول من ترى أنه يخدم السودان وشعبه ويرفض من يعمل ضده.

اليوم تبدو الأمم المتحدة بأذرعها المختلفة مثل مجلس الأمن الدولي كقصر مشيد وبئر معطلة، فرغم إنشائها منذ أكتوبر 1945 إلا أن حصيلة نجاحاتها متواضعة ولا تتناسب مع حجم الأموال المنفقة ولا مع حجم الزخم الإعلامي المصاحب لأنشطتها. فلم تكن إلا مطية للقوى الكبرى وآلية لصياغة المبررات واجتراح المسوغات لتحقيق أطماع هذه القوى وسيطرتها على الدول الضعيفة وفرض رؤاها السياسية عليها. الخلاصة أن الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة المتفرعة منها تحتاج لإصلاح شامل لكي يكون أداؤها فاعلا. بيد أنه في أحسن الأحوال لن يكون هناك إصلاح إلا محدودا وشكليا، في ظل غياب إرادة سياسية للإصلاح، لأن الدول الكبرى مستفيدة ومستثمرة في هذه الاختلال المطلوب في حد ذاته من جانبها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى