أعمدة

أمواج ناعمة.. مقاومة شعبية راشدة ضد “الجنجويد”

د. ياسر محجوب الحسين

لم يعد الجدل المحتدم حول حياة أو موت قائد تمرد مليشيا الدعم السريع متغيرا أو حتى ثابتا مهما في سياق الأزمة السودانية، بل إن احتدام الجدل مرتبط بمتغير جديد طغى وسيطر على المشهد برمته، وربما كان التعجل لحد الهستيريا للاستثمار لأكبر وقت في كاريزمية قائد التمرد، له علاقة وهدف استباقي بهذا المتغير الجديد الذي قد يغير مجرى الصراع الدامي البلاد، وذلك الاستثمار مقصود لادامة اسلوب عقلية القطيع في قيادة عناصر المليشيا. وذلك المتغير الجديد هو نهوض مقاومة شعبية واستنفار عارم لقيام عامة المواطنين بالدفاع عن أرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم ضد انتهاكات المليشيا التي لا يردعها رادع، لا ديني ولا أخلاقي ولا قيمي. وبالفعل تدفقت التبرعات بالنفس والمال نقدا وعينا وانتظمت التدريبات والتحشيد العسكري في كل مناطق السودان. لقد بلغ الغضب الشعبي مدى أصبحت فيه المقاومة الشعبية تشتري السلاح بنفسها ولا تنتظر أن يوفره لها الجيش. إن هذه المقاومة الشعبية الخالصة ستكون حتما عقبة كأداة في وجه امنيات الجنجويد الساذجة باحداث تغيير ديمغرافي في البلاد والسيطرة على الحكم. كما لا يمكن وصف ما يجري بحرب أهلية بقدر ما هو دفاع شعبي ذاتي ضد عصابات نهب وسرقة تستهدفه.
في ذات الوقت يجب ألا تكون من اهداف المقاومة الشعبية الناهضة أن تستعدي أي مكون لانتمائه الجهوي، فذلك يخدم أجندة الجنجويد الذين في معظمهم غير سودانيين. إن الجميع في السودان متضررون من انتهاكات الجنجويد بما في ذلك أهل دارفور الذين يجب أن يكونوا ضمن الجهد الشعبي لدحر الفوضى، فالجميع تجمعهم أخلاق طبعتهم وميزتهم دهورا وقرونا عديدة. إن التفكير الهادئ العقلاني وبعد النظر هو القوة القاهرة لكل اعتداء واستهداف لاسيما وان الجنجويد يغلب عليهم الجهل وتقودهم عقلية القطيع. لا أن أبناء السودان الجنود في جيشه تُسدّ بهم الثغور ويتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء. فهذه حرب عادلة ومقننة ومتوافقة مع مجموعة من المعايير والضوابط التي تهدف إلى الحد من العنف أو الانتقام أو العدوان على الساكنة المدنية. فالحرب العادلة تستقي مشروعيتها، من مصدر قانوني أخلاقي أساسه مسؤولية إنسانية، راسخة في منظومة القيم، تنأى بها على أن تكون حربا عدوانية، أو انتقامية.
فبعد مرور ٩ أشهر على هذه الحرب المفروضة على السودان وشعبه قد تم تدمير القوة الرئيسية للتمرد عدة وعتادا وقوة بشرية. وتم تفكيك وجودهم في العاصمة إلا من بعض الارتكازات التي لن تصمد بمرور الوقت والغرض منها كسب نقاط على طاولة المفاوضات. وسياسيا فقدت المليشيا كل مشروعيتها بسبب الجرائم التي ظلت ترتكبها وهي جرائم ضد الانسانية أقلها الابادة الجماعية والتطهير العرقي. وسينتهي الامر بتصنيفها دوليا منظمة ارهابية فليس هناك من عاقل يستطيع الدفاع عنها. وعلى صعيد الحراك الإقليمي عبر منظمة «الايقاد» فإن التركيبة الحالية لهذه المنظمة المعلولة وانعدام ثقة الحكومة السودانية فيها، تبدو ليست قادرة على انجاز اي اتفاق سياسي لصالح الأزمة في السودان. ونعلم ان الحكومة السودانية اعتبرت بيان المنظمة في قمتها الأخيرة بجيبوتي المخصصة للسودان بحضور عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة، مُحوّرا شابه التزوير ولا يعنيها إذ أنه خرج عن النقاط المتفق عليها في القمة. وذهبت الخرطوم إلى ابعد من ذلك بأن لوحت بالنظر في أمر انسحابها من «الايقاد» احتجاجا على تعاطيها غير المحايد مع الازمة السودانية ووجود علاقات مصلحية بين اطراف منها وقيادة التمرد. إن مخاوف البعض من حالة تعدد الحكومات في السودان على غرار ليبيا لا تبدو في محلها، فمليشيا الدعم السريع ليست بتلك القدرة التنظيمية التي تمكنها من صياغة خطاب سياسي متماسك يمكنها من تشكيل حكومة فضلا عن أن هناك شكوكا حقيقية في مدى تحكم قيادة مركزية في شتاتها المنتشر في العديد من المناطق لأنها قوات ذات طبيعة فوضوية ذات سمعة سيئة تمنع استجابة الكوادر الضرورية لتشكيل مثل هذه الحكومة.
ومع اقتراب وضع الحرب لأوزارها تشير التوقعات الممزوجة بالأمل والاستقراء الموضوعي استنادا لمجريات حالية، إلى أن معطيات ما بعد الحرب لن تكون كما كانت قبلها. فالمسرح السياسي كله سيتغير ويُصار إلى تفكير سياسي جديد يتجاوز الأخطاء التي أفضت إلى الحرب. ولعل فظاعة الحرب وآثارها قد تفرض فترة يلتقط فيها الناس انفاسهم قبل أن تعود عجلة الحياة لا سيما في جانبها السياسي المدني، لطبيعتها وتفاعلاتها مع الحياة في البلاد. ويتوقع أن الكلمة والسلطة كاملة والترتيبات الاولى ستكون بيد السلطات العسكرية والأمنية ومسؤوليتها بوضع خطة لسحب السلاح من أيدي الناس واقتصاره على الدولة ومؤسساتها الأمنية. ولن تكون نتائج أي اتفاق أن تعود مليشيا الدعم السريع لتضطلع بأي دور سياسي أو عسكري. وقد يكون حينها تم الاتفاق دوليا على تصنيفها منظمة إرهابية. ولعل التحدي الاكبر للدولة بكل مؤسساتها رسمية وشعبية هو اعادة تعمير ما دمرته الحرب من مؤسسات وبنى تحتية. ولن ينجح اعادة الاعمار إذا ما تم التعويل على الخارج وانتظار الايفاء بوعود يمكن أن يقطع بها بعض المانحين. ومن أهم دروس الحرب سياسيا، أن تقتنع القوى السياسية بعبثية عزل قوى سياسية ومجتمعية تحت أي مسوغ، فالمعادلة الصفرية (إما نحن أو هم) أثبتت كلفتها الباهظة على أمن واستقرار البلاد. وستجد مؤسسات الدولة الاجتماعية والدينية والاعلامية أمام تحدي ضرورات التعافي الاجتماعي وازالة آثار البغضاء والكره التى وقرت في القلوب نتيجة ممارسات المليشيا الاجرامية، ويتضمن ذلك محاولة اعادة ادماج وتأهيل افراد تلك المليشيا من السودانيين المغرر بهم وكل من ساندها من طرف عصبية او جهوية او قبلية، في المجتمع ليعودوا افرادا صالحين يعملون بايجابية ضمن المجتمع لرفعته واستقراره وتقدمه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى